مخالفات وفساد واستثناءات بناء : جميع المحافظات على لائحة الخطر.. وبالأرقام
ما لم تتمكن التحذيرات الرسمية والبحثية من فعله طيلة ثلاثة عقود وأكثر من الزمن، تكفلت ثواني الزلزال الأخير بتحقيقه، لكن للأسف تم ذلك مع جرعة ألم شديدة تمثلت في خسارة الآلاف لأرواحهم والآلاف لممتلكاتهم.
بحسب المعطيات الأولية فإن كثير من الضحايا الذي سقطوا جراء الزلزال الأخير كانوا من سكان مناطق السكن العشوائي، والأبنية القديمة، وهذا ما جعل من ملف مناطق المخالفات السكنية يعود من جديد إلى دائرة الضوء والاهتمام، لاسيما مع الزيادة الكبيرة التي طرأت على أعداد المنازل والشقق السكنية التي شيدت بشكل مخالف خلال سنوات الحرب، فضلاً عن الضرر الذي لحق بالأبنية السكنية جراء العمليات العسكرية في المناطق التي كانت مسرحاً لمعارك كبيرة.
وفي ضوء ما تظهره التقديرات البحثية من نسب لانتشار المخالفات السكنية والضرر الجزئي والكلي الذي لحق بالأبنية، فإن تعرض سوريا لزلزال جديد أو دخولها في دائرة الهزات الارتدادية الزلزالية الإقليمية يعني أنها ستكون معرضة كذلك لحدوث خسائر كبير، فهل ستكون البلاد قادرة في المرحلة القادمة على تجنب تلك الخسائر أو التخفيف منها؟
قد لا تكون المؤسسات الحكومية قادرة على معالجة ملف متوارث منذ ما يزيد على أربعة عقود، إلا أنها قادرة على التخفيف منها من خلال الحد فعلياً من انتشار ظاهرة المخالفات والتشدد في تطبيق المواصفات الإنشائية، والتي يمكن حصر سببها الأساسي في ناحتين: الأولى فساد الوحدات الإدارية وتجار البناء وسوء الإدارة، ويمكن للحكومة هنا أن تعود إلى صور الأقمار الصناعية وترصد انتشار هذه المخالفات ضمن الفترة الزمنية التي تختارها. أما الناحية الثانية فهي تتمثل في عدم وجود خيارات أخرى أقل تكلفة لطالبي السكن.
أرقام صادمة:
في مقاربة مشكلة السكن العشوائي تتبدى أولوية خطورة الوضع الإنشائي لمعظم الأبنية، التي تشاد على عجل ومن من دون إشراف هندسي متخصص أو التقيد بمواصفات الكود السوري للبناء، وهذا ما أشارت إليه نتائج مسح ميداني حكومي جرى لظاهرة السكن العشوائي قبل الحرب، وأكدت “أنه لا يوجد أي مسكن مبني من الإسمنت المسلح”، فالأبنية إما مبنية من البلوك الإسمنتي من دون أعمدة ونسبتها حسب المسح المذكور حوالي 25.3 %، أو أنها مبنية من البلوك الإسمنتي مع أعمدة ونسبتها حوالي 50 %، أو أنها مبنية من الحجر ونسبتها ليست قليلة إذ تبلغ حوالي 23.5 %، أو أنها أخيراً مبنية من اللبن ونسبتها حوالي 1.2%.
ووفق ما سجله باحثو المسح آنذاك من ملاحظات فإن “16.3% من المساكن يوجد في جدرانها تشققات، 70.8% من المساكن كسوتها عادية، 26.7% من المساكن كسوتها جيدة، وفقط 2.5% من المساكن كسوتها ممتازة”، علماً أن التقديرات البحثية كانت تتحدث قبل الحرب عن أن مناطق السكن العشوائي في عموم البلاد، والتي يزيد عددها على 157 منطقة، وتشكل ما يقرب من 50% من المساكن السكنية وفقاً لتصريح سابق لرئيس الحكومة الحالي عندما كان وزيراُ للإسكان والأشغال العامة في العام 2018، وهذه المناطق تضم ما بين جنباتها ما يقرب من نصف مليون مسكن وفقاً لدراسات سابقة وقيمتها العقارية تتجاوز آنذاك 8.5 مليار دولار.
وللأسف فإن هذه النسب تغيرت نحو الأسوأ خلال سنوات الحرب مع توسع مناطق السكن العشوائي وزيادة أعداد مخالفات البناء وأعمال الغش في البناء. في ظل تواطؤ العديد من الوحدات الإدارية وغض نظر حكومية. وهناك اعتراف رسمي بزيادة ظاهرة السكن العشوائي خلال فترة الحرب، إذ أن هيئة التخطيط الإقليمي تؤكد في تقريرها الوطني أن “انتشار الظاهرة زاد بشكل ملحوظ منذ العام 2011، مما أدى إلى زيادة مساحة هذه الأحياء وظهور أحياء جديدة على أطراف المدن الكبرى”.
واستناداً على الصور الفضائية الملتقطة لثلاثة أعوام هي 2000-2010-2020 فإن مناطق السكن العشوائي باتت تشكل نسبة كبيرة في مراكز مدن محافظات عدة من بينها: دمشق، درعا، الحسكة، حلب، اللاذقية، طرطوس، الرقة، وبصورة أقل في حماة، وإدلب.
تكتمل صورة الوضع المقلق مع البيانات الحكومية المتعلقة بنسب الضرر الحاصل بالوحدات السكنية في معظم المحافظات السورية جراء الحرب، إذ تبين تلك البيانات أن نسبة الضرر الحاصل في الوحدات السكنية في محافظة ريف دمشق قدرت بحوالي 40%، حلب 38%، حمص 30%، دير الزور 18%، فالحسكة 15%، حماة 10%، درعا 6.5%، دمشق 5%، اللاذقية 3.5%، وتالياً فإن جميع المحافظات السورية باتت على لائحة الخطر في ضوء هذه التقديرات الأولية والمرشحة للارتفاع مع إنجاز عمليات التقييم الفني والإنشائي لجميع الوحدات السكنية.
ليس هناك حل سحري:
مع أن تأثيرات الكوارث الطبيعية قد تطال أحياناً، وتبعاً لشدتها ومركزها، جميع الأبنية السكنية على اختلاف أشكالها، إلا أن أبنية التجمعات العشوائية والمخالفات تبقى الأكثر عرضة للخسائر، وهي في سوريا أصبحت مع عقد الحرب أكثر انتشاراً وخطورة من ذي قبل، هذا إلى جانب التصدعات والأضرار الإنشائية التي حصلت بفعل المعارك العسكرية.
في مواجهة هذه المشكلة، ليس هناك حل سحري يمكن اللجوء إليه، لكن ذلك ليس مبرراً لتفاقم انتشارها، لاسيما لجهة غض الطرف عن المخالفات التي تحدث في عمليات بناء الأبنية المرخصة وغير المرخصة وما يتخلل ذلك من فساد ورشاوى هي على حساب حياة الناس وحقوقهم في الحصول على مسكن مناسب ومتوافق مع المواصفات القياسية الوطنية، ولذلك فإن الخطوة الحكومية الأولى تبدأ بالحد من انتشار أبنية السكن العشوائي ووقف المخالفات الحاصلة في الأبنية المرخصة والاستثناءات التي تمنح، وبالتوازي مع ذلك يفترض أن تنطلق عملية إعادة إعمار لمناطق السكن العشوائي تبعاً للمخاطر وتهديدات الكوارث الطبيعية، وليكون الزلزال الأخير أحد المؤشرات التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك.
زياد غصن – أثر برس